فصل: المسألة الثالثة: (في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (24):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما مضى من نكال الكافرين مسببًا عن عدم الاستجابة، أمر المؤمنين بها تحذيرًا من الكون الكفرة في مثل حالهم فيحشروا معهم في مآلهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {استجيبوا} أي صدقوا دعواكم ذلك بإيجاد الإجابة إيجاد من هو في غاية الرغبة فيها {لله} أي واجعلوا إجابتكم هذه خاصة للذي له جميع صفات الكمال {وللرسول} الذي أرسله إلى جميع الخلق.
ولما كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم لا محالة لأن الله تعالى أمره بدعائهم، وكان لا يدعوهم إلا إلى ما أمره الله به، وكان سبحانه لا يدعو إلا إلى صلاح ورشد؛ عبر بأداة التحقيق ووحد الضمير وشوق بإثمار الحياة فقال: {إذا دعاكم} أي الرسول بالندب والتحريض.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب، نبه على ذلك باللام دون إلى فقال: {لما يحييكم} أي ينقلكم بعز الإيمان والعلم عن حال الكفرة من الصمم والبكم وعدم العقل الذي هو الموت المعنوي إلى الحياة المعنوية، ولا يعوقكم عن الاستجابة في أمر من الأمور أن تقولوا: إنا استجبنا إلى الإيمان وكثير من شرائعه، فلولا أن ربنا علم فينا الخير ما أسمعنا، فنحن ناجون؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد ابن المعلي- رضى الله عنهم- قال: كنت أصلي فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا}- الآية، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له فقال: هي {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 1] «هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
وللترمذي عن أبي هريرة- رضى الله عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب- رضى الله عنهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبيّ! وهو يصلي، فالتفت أبيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول صلى الله عليه وسلم: يا أبيّ! وهو يصلي، فالتفت أبيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام، ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك، فقال: يا رسول الله! إني كنت في الصلاة، قال: فلم تجد فيما أوحي الله إليّ أن {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24] قال: بلى! ولا أعود إن شاء الله! قال: تجب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته هذا حديث حسن صحيح.
ولما كان الإنسان إذا كان على حالة يستعبد جدًا أن يصبر على غيرها، قال تعالى مرغبًا مرهبًا: {واعلموا أن الله} أي الذي له جميع العظمة {يحول} أي بشمول علمه وكمال قدرته {بين المرء وقلبه} فيرده إلى ما علم منه فيصير فيما كشفه الحال كافرًا معاندًا بعد أن كان في ظاهر الحال مؤمنًا مستسلمًا فيكون ممن علم الله أنه لا خير فيه وقسره على الإجابة فلم يستمر عليها، ويرد الكافر بعد عناده إلى الإيمان بغاية ما يرى من سهولة قيادة، فكنى سبحانه بشدة القرب اللازم للحيلولة عن شدة الاقتدار على تبديل العزائم والمرادات، وهو تحريض على المبادرة إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ما دامت القلوب مقبلة على ذلك خوفًا من تغييرها.
ولما خوفهم عاقبة الحال، حذرهم شأن المآل فقال: {وأنه} أي واعلموا أنه تعالى: {إليه تحشرون} لا إلى غيره، فيحشر المستجيبين في زمرة المؤمنين، والمعرضين في عداد الكافرين وإن أبوا حكمًا واحدًا، لأن الدين لا يتجزأ، وقدم علم أن إذا ليست قيدًا وإنما هي تنبيه على وجوب اتباعه في كل ما يدعو إليه لعصمته، وحكمة الإتيان بها الإعلام بأنه ما ترك خيرًا إلا دعا إليه؛ قال الحرالي في أواخر كتاب له في أصوال الفقه: ولها- أي العصمة- معنيان: أحدهما عصمة الحفظ، وهو معنى ينشأ من التزام الحكم عليه بماضي شرعته، وهي العصمة العامة للأنبياء، وفي هذه الرتبة يقع الكلام في الحفظ من الصغائر بعد الاتفاق على الحفظ عما يخل بالتبليغ ويحط الرتبة والكبائر، وحقيقة الصغائر مقدمات الذنوب التي لم تتم، فيكون تمامها كبيرتها، وعلى ذلك بنى قوم احتمال وقوع الفعل محظورًا من نبي، وكل ذلك- وإن كان من أحوال أنبياء- فإن المتحقق من أمر النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو علو عن هذا المحل؛ المعنى الثاني من العصمة رفع الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بما حفظه الحافظ من ماضي ظاهر شرعته وبما بلغ إليه فهمه من مبادئ التنشؤ من سننه، واتخاذ فعله مبدأ للأحكام في كل آن من غير التفات لما تقرر في ماضي الزمان، وهذه هي العصمة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم الجامع، فلا يكون لفعله حكم إلا ما يفهمه إنباؤه عن حال وقوعه، ويكون الأحكام تبعًا لفعله، لا أن فعله يتبع حكمًا، فهذا وجه عصمته الخاصة الممتنع عليها جواز الخروج عنها، فمن كان يسبق إليه من أكابر الصحابة نحو من هذا المعنى لا يتوقف في شيء من أمره كالصديق- رضى الله عنهم- وكما كان عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- في اقتدائه حتى في إدارة راحلته وصبغه بالصفرة ولبسه النعال السبتية ونحو ذلك من أمره وأمر من حذا منهم هذا الحذو، ومن كان يتوهم الحكم عليه بمقتضى علمه وفهمه من أمر شرعته لا يكاد يسلم من وقوع في أمر يرد عليه انتحاله كما حكم أبيّ- رضى الله عنهم- لما كان يصلي بإمضاء عمل الصلاة إذ دعاه حتى بين له قصور فهمه عن الله في حقه أي بقوله: ألم تسمع الله يقول: {استجيبوا لله وللرسول} وكالذي قال: انزل فاجدع لنا، فقال: إن عليك نهارًا، فقال له في الثالثة أو الرابعة: انزل فاجدع لنا ويلك أو ويحك! فإذا وضح أن فعله مبدأ الحكم ومعلم الإنباء لزم صحة التأسي به في جميع أحواله، إما على بيان من تعين رتبة الحكم من وجوب أو ندب أو أباحة، أو على مطلق التأسي مع إبهام رتبة الحكم والاتكال على ما عنده هو صلى الله عليه وسلم من العلم، فنية التأسي به على إبهام في الحكم ربما كان أتم من العمل بما تبين حكمه، أحرم علي- رضى الله عنهم- وهو باليمن، توجه إلى مكه بإحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتطرق لشيء من أمره صلى الله عليه وسلم بما وقع من كونه يفتي بأمر ثم يوافق في غيره، لأن الآخذ في ذلك عن قصور في العلم بمكانته من علم رحمانية الله وكلمته وتنزيله إلى موافقة أمر سنة الله وحكمته نحو الذي أفتاه بتكفير الجهاد كل ذنب بناء على علمه برحمانية الله وإمضاء كلمته، ثم ذكر له ما قال جبرائيل عليه السلام من استثناء الدين الدين مما أنزل على حكم أمر الله في محكم شرعته وسنته، يعني- والله أعلم- أن من صح جهاده تكفر كل ذنوبه، وأن توقف الدين على إرضاء الله لخصمه، فالإخبار بالكفارة ناظر إلى المآل، والإخبار بنفيها ناظر إلى الابتداء، وكذلك أفتى بترك التلقيح بناء على إنفاذ كلمة الله، وردهم غلى عادة دنياهم حين لم يتجشموا الصبر إلى ظهور كلمة الله على مستمر عادته، فقد عمل بأول فتياه غير واحد ممن لم يسترب في نفاذ حكمه وصحته فأخفق ثمرات ثلاث سنين ثم عاد- في غنى عن التلقيح- إلى أحسن من حاله في متقدم عادته، ولا يتقاصر عن إدراك ذلك من أمره في كل نازلة من نحوه إلا من لم يسم به التأييد إلى معرفة حظ من مكانته، فإذا وضح ذلك فكل فعل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان بيانًا لواجب فهو منج من عقاب الله، وإن كان تعليمًا لقربي من الله فهو وصلة إلى محبة الله كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وإن لم يتضح له مجمل منهما تأسى بها على إبهام يغنيه عمله وتعلو به نيته، وما كان مختصًا به فلابد من إظهار أمر اختصاصه بخطاب من الله سبحانه أو منه عليه السلام كما قال تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50]. انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في معنى {استجيبوا}]:

قال أبو عبيد والزجاج {استجيبوا} معناه أجيبوا وأنشد قول الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب

.المسألة الثانية: [في أن ظاهر الأمر للوجوب]:

أكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب، وتمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين:
الوجه الأول: أن كل من أمره الله بفعل فقد دعاه إلى ذلك الفعل وهذه الآية تدل على أنه لابد من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه.
فإن قيل: قوله: {استجيبوا لِلَّهِ} أمر.
فلم قلتم: إنه يدل على الوجوب؟ وهل النزاع إلا فيه، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثبات أن الأمر للوجوب بناء على أن هذا الأمر يفيد الوجوب، وهو يقتضي إثبات الشيء بنفسه وهو محال.
والجواب: أن من المعلوم بالضرورة أن كل ما أمر الله به فهو مرغب فيه مندوب إليه، فلو حملنا قوله: {استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} على هذا المعنى كان هذا جاريًا مجرى إيضاح الواضحات وأنه عبث، فوجب حمله على فائدة زائدة، وهي الوجوب صونًا لهذا النص عن التعطيل، ويتأكد هذا بأن قوله تعالى بعد ذلك {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جار مجرى التهديد والوعيد، وذلك لا يليق إلا بالإيجاب.
الوجه الثاني: في الاستدلال بهذه الآية على ثبوت هذا المطلوب.
ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: «ما منعك عن إجابتي» قال كنت أصلي قال: «ألم تخبر فيما أوحى إلي {استجيبوا لله وللرسول}» فقال: لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك، والاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه فلم يجبه لامه على ترك الإجابة، وتمسك في تقرير ذلك اللوم بهذه الآية فلولا دلالة هذه الآية على الوجوب، وإلا لما صح ذلك الاستدلال وقول من يقول مسألة أن الأمر يفيد الوجوب، مسألة قطعية، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد ضعيف، لأنا لا نسلم أن مسألة الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية، بل هي عندنا مسألة ظنية، لأن المقصود منها العمل، والدلائل الظنية كافية في المطالب العملية.
فإن قالوا: إنه تعالى ما أمر بالإجابة على الإطلاق بل بشرط خاص وهو قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فلم قلتم إن هذا الشرط حاصل في جميع الأوامر؟
قلنا: قصة أبي بن كعب تدل على أن هذا الحكم عام وغير مخصوص بشرط معين، وأيضًا فلا يمكن حمل الحياة هاهنا على نفس الحياة.
لأن إحياء الحي محال.
فوجب حمله على شيء آخر وهو الفوز بالثواب، وكل ما دعا الله إليه ورغب فيه فهو مشتمل على ثواب، فكان هذا الحكم عامًا في جميع الأوامر وذلك يفيد المطلوب.

.المسألة الثالثة: [في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}]:

ذكروا في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وجوهًا: الأول: قال السدي: هو الإيمان والإسلام وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته، يدل عليه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} [الروم: 19] قيل المؤمن من الكافر.
الثاني: قال قتادة: يعني القرآن أي أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة، وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم.
والعلم حياة، فجاز أن يسمى سبب الحياة بالحياة.
الثالث: قال الأكثرون: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} هو الجهاد، ثم في سبب تسمية الجهاد بالحياة وجوه: أحدها: هو أن وهن أحد العدوين حياة للعدو الثاني.
فأمر المسلمين إنما يقوى ويعظم بسبب الجهاد مع الكفار.
وثانيها: أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وثالثها: أن الجهاد قد يفضي إلى القتل، والقتل يوصل إلى الدار الآخرة، والدار الآخرة معدن الحياة.
قال تعالى: {وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} [العنكبوت: 64] أي الحياة الدائمة.
والقول الرابع: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي لكل حق وصواب، وعلى هذا التقدير فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة.
والمراد من قوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الحياة الطيبة الدائمة قال تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97].